المشاركات الشائعة

الأحد، 16 ديسمبر 2018

حسام أبو غنّام، الشاعر النّرجسي الذي أتى متمّمًا لرسالة.


عندما يخلخل عنوان ديوان ما أفكار المتلقي، يكون الإشارة الأولى أن ثمة فضاء أدبيّ مغاير يحتاج من يسبر أغواره. هذا هو الحال مع ديوان: "ستون عشرا"، للشاعر الفلسطيني حسام أبو غنام، وهو ديوانه الثاني بعد:"حاصرتُ كلّي". صدر عن دار أمجد للنشر والتوزيع سنة 2017.
يعتبر العنوان عتبة الديوان الأولى ، فالشاعر يسدد سهمه الأوّل نحو المتلقي، فإمّا أن يصطاده أو يخيب. "ستون عشرا"، يشي كعنوان بتركيبٍ عدديٍّ مبتكر، ومن هنا يضيء أمام المُتلقي الأشارة الحمراء الأولى: "قف! إخلع أفكارك المسبقة ورؤاك قبل أن تلج الديوان فهنا قصائد ستباغتك بجماليتها وترديك شهيد الدهشة":
ستون عشرا ما تبقّى للطريقِ
فواصلي هذا المسير
إلى هناك وراقبي عينيّ
فالخطواتُ تسرقُ موعدًا
إن تاهتِ الأقدارُ بينَ إشارتَيْنِ
فعجّلي
(ستون عشرًا_ص57)
تمتاز قصائد حسام أبو غنام بخصوبتها، فهو شاعر مثقف يغرف رؤاه الشعريّة من شتّى حقول المعرفة، ممّا يتيحُ له الكتابة في عدّة محاور. إتسمتْ أغلب قصائده بالصبغة العاطفيّة لكنه كتب أيضا عن الموت وعدم خوفه منه فأجاد:
لا تنتظر
خُذ ما يخُصُّكَ
وابتَعِدْ
لا تفترض أنّي أخافكَ
واقتربْ
أَحْكِمْ حصارَكَ
وانتقِمْ لشقائي
(إستدراك_ص70)
ويتابع:
لكَ ما أُمرتَ بقبضِهِ
أَنْجِزْ
لدينا موعِد
(استدراك_ ص71)
وهنالك محورالرثاء ،كرثاء والده، الذي انتقل حديثا فافتتح الديوان برثاء مضمخ بعاطفة جيّاشة وبثّ للمتلقي أوجاع الفقدِ:
قالوا استراحَ أجبتُ هل علموا به؟...أسطورةٌ هو في حكايا الأوّلين
( رثاء المغفور له بإذن الله والدي_ ص 9)
حسام أبو غنّام، شاعرٌ يجيد عجن أرغفته فتأتي طازجة شهيّة تباغت المتلقي فتدهشه:
لا تخلعي نعليكِ
فالوادي المُقدّس لن يمرّ على الخريطةِ
واحذري،
تلكَ القلوبُ على المسافةِ
شُبِّهَتْ للعابرينَ كأنّها
فيضٌ من النورِ الذي قد أسقطته حمامةٌ
لمَا أتت برسائلِ الغُرباءِ
مِن مدنِ الغيابِ.. (ستون عشرًا ،ص57-58)
أجاد الشاعر توظيف التناص الديني في أكثر من قصيدة وقصيدة في ديوانه فأتى بعدّة شخصيات دينيّة حملت رسائل سماويّة: محمد، عيسى، موسى، يوسف، ايليا، نوح، ومريم وتماهى معهم، ولجأ إليهم ليثري القصيدة ويستدعي فكرة النّبوة وحمل رسالة سماويّة:
أنا يوسف فاقتربي منّي... فُكّي الأغلالَ عنِ المبسَمْ
( يا مريم_ ص134)
وظّفَ قصة موسى عليه السلام:
لا تخلعي نعليكِ
فالوادي المُقدّس لن يمرّ على الخريطةِ
(ستون عشرًا ،ص57-58)
لا بل أضاف له بُعدًا آخر جعل الصورة الشعريّة تتألق، إلاّ وهو نفي وجود المكان المقدس. في قصيدة( يا قطّتي السّوداء_ ص136)
كذلك وظّفُ شاعرنا شخصيّة موسى عليه السلام في أكثر من قصيدة. مثلا، فكرة استقبال الوصايا العشر على ألواح:
إنْ تجمَعِ الألواحَ تأتيكَ السَّما...ءُ بنورها في الليلةِ الظّلماءِ
(يا قطّتي_ص136)
ولجأ في صورة شعريّة فذّة إلى فكرة العصا في يد موسى والتي تحولت إلى ثعبان التهم كلّ ثعابين السّحَرة في بلاط فرعون، فوّظفها بمنتهى الحرفية إذ جعلها في يد الحبيبة التي استعملتها لإبطال مفعول سموم العابرات اللاتي لدغنه بحقدهن، فأتت حبيبته بالخلاص من خلال تنفيذ معجزة العصا:
لستُ نوح
لكنَّ روحكِ كالعصا
في كفِّ موسى
أبطلتْ
سحرَ اللواتي
إنْ لدغنَ القلبَ
أعيتهُ القروح
( نرجسيٌّ وياسمينة_ص103-104)
يتماهى الشاعر مع شخصيّة السيد المسيح وآلام صلبه في أكثر من قصيدة حتَى أنّ موضوع الأوجاع والصلب يرتقي ليكون ثيمة محوريّة في الديوان:
لم أستيقِظْ مُذ صلبوني...لم أَنجُ ولكن لم أُعدَم
ويتابع:
وحملتُ صليبي يتبعُني...مسمارٌ صدِئٌ في المِعْصَم
(يا مريم_ ص133)
ويربط بين فكرة آلالام السيد المسيح ورسالة الخلاص التي حملها للبشريّة فيعتبر نفسه الرسول الذي أتى برسالة:
ثمَّ اتكِئْ فوقَ الصليبِ مُعَمِّدًا ... روحَ الرّسالةِ في زلال الماءِ
(يا قطّتي السّوداء_ ص136)
هو يصعد الصليب بنفسه، وهو يعمّد نفسه بنفسه ، وحينَ يفعل يستلم الرسالة ويصير رسولا.. رسول الشعر. يختار شاعرنا لهويته الشّعرية صفة النّرجسيّة، وهو الذي بارك نفسه بنفسه حين حمل الرسالة:
باركتُني( إشباع_ ص 77)
فيرى أنّه "أكمل القصيدة" كناية عن "اكمال الرسالة":
اليوم أكملتُ القصيدةَ
(إشباع_ ص 77)
لكن ما هي رسالته؟
هو يُعلن أنّه أتى ليؤسس "ولاية العُشّاق" (ص77)
أتى يحملُ رسالة العشق والإنسانيّة. هو الشاعر الرائي:
إنّي حالمٌ
حُلُمي رُؤى..
ورؤايَ لستِ بندِّها
(وحي وصورة_ ص 66)
وهو بُعثَ شاعرًا لإنقاذ الشّعر من الرّتابة التي عافتها العيون والآذان. ثمّ، يتماهى مرّة تلو المرّة مع صورة السيّد المسيح في صلبه وانبعاثه، فيصور في صورة شعريّة فذّة صعوده الصليب راضيا مطيعا كما السيّد المسيح الذي أطاع حتّى الموت، موت الصليب. لكنّ شاعرنا يعلن أنّه لم يقتله إحد، إنّما هو قتل نفسه بنفسه لكي يحصل على الوحي الإلهي ويصبح رسولا:
باركتُــني( يا لعنةً حلّتْ على كلِّ النّساءِ)
اليومَ أكملتُ القصيدة
في غيابي حاضرًا
ورضيتُ لي موتًا هنيئًا
فاكتمالي تمَّ حينَ قتلتُني
مُتقمِّصًا روحي
لإشباعِ الفضيلةِ
طائعًا
وصعدتُ نحوَ نهايتي
مُتنزِّلاً بالوحيِ من أمرِ السَّماءِ
ويتابع:
فالبقاءُ رسالتي
وختامها:
لا موتَ يُشبعُ رغبتي نحوَ البقاءْ
(إشباع _ص 77-78)
وهو يرى أنّه أتى رسولا لإشباعِ الفضيلة ولبذر أزهار الحياة بين الشّوك، مدعومًا بالرؤى التي سبق وأعلن أنّه يملكها:
وأنا الذي حملَ التُقَى بحقيبةٍ
حتّى ظننتُ وبئسَ ظنّي
أنّني..
ذاكَ الإمامُ
على المنابرِ في قباءْ
وبذّرتُ بين الشّوكِ
أزهارَ الحياةِ...
(إشباع_ ص 76)
وهو يرى نفسه في مرتبة الإله الذي يغفر ويغسل من الآثام ويبارك:
أدركتُ أنّي لعنةٌ
فغفرتُ لي كلَّ الخطايا
والذّنوب،
غسلتني من كلِّ إثمٍ عالقٍ
بقصيدتي
وأحلتُ أوراقي لرسَّامٍ
يُجمِّلُ توبتي
( إشباع_ ص 75)
مع هذا، ينفي الشاعر عن نفسه كونه أحدا من الشخصيات الدينيّة التي تماهى معها، وهذا ينبع من نرجسيته، فهو حسام المتفردّ بتجربته الإبداعيّة التي تحمل ميزات جميع
الأنبياء السالفين:
لستُ الإله( ص103)، لستُ النّبيَّ ( ص103) "كناية عن النبي ايليا"، لستُ نوح( ص103)، لست عيسى(ص108):
لستُ الإلهَ
لأحملَ الفصلَ الأخيرَ
على الهطولْ
لستُ النّبيَّ
لكي أبشِّرَ باحتباسِ القحْطِ
أو أبني المراكبَ للنجاةِ
فلستُ نُوحْ
(نرجسيّة وياسمينة_ص103)
ويتابع:
لستُ عيسى
فاصلبوني في لسانِ الكاذبينْ
لستُ أرجو اليومَ عتقًا
معجزاتُ العصر صارتْ للحكايا
(نصفُ موت_ص 108)
كما اتضحَ، يمتاز حسام أبو غنام بالنّرجسيّة، وهو الذي يُطلق على نفسه لقب، (الشاعر النّرجسي) فيزيّن صفحته في شبكة التواصل الإجتماعي الفيس بوك بهذا اللقلب مقترنا بإسمه. وتحمل إحدى قصائده هذه الصفة: نرجسيٌّ وياسمينة(ص101)، وهو يجاهر بنرجسيته فيأتي بقصة نرسيس الذي نظر وجهه في الماء فأعجبه جماله ووقع في الماء، فيرى أنّ نرجسيته التي وصلت ذروتها(إكتمال النّرجسيّة) أوقعته(رماني) في مرآة البحيرة (القصيدة)، فالقصيدة هي مرآة الشّاعر. لن يعرفه إلاَّ مَن يحدّق فيها أو يدخلها.
وهو بذلك يعترف أنّ قصائده مُشبعة بالنّرجسيّة، عالقة بها:
أرى فيَّ إكتمالاً نرجسيًّا... بمرآةِ البُحيرةِ قد رماني
فصارَ بلحظتي نرسيسُ نسيًا... تساقطَ وجهُهُ خلفَ الأماني
(جُمان_ص139)
ومن ملامح النّرجسيّة في الديوا أنّ شاعرنا أتى على ذِكْرِ اسمه في إحدى القصائد:
ضحِكَتْ وقالتْ يا حُسام ترَيُّثًا... أُنظُرْ لفعلي من جميعِ الأوجُهِ
(الوردُ للأنفاس حقًّا يشتهي_ص137)
وتمّ ذكر اسمه بشكل غير مباشر أيضا:
واستباحتْ جنوني
لتُسقِطَ من راحتيَّ الحُساما
(ما الذنب_ص127)
من ملامح النّرجسيّة في قصائده إدّعاؤه أنّ من تحظى بقربه فقد حظيت بالجِنان في حين أنّ الحرمان منه نار تكويهنّ:
عودي لرشدك لو علمتِ مكانتي... لأصابَكِ الإرهاقُ والإغماءُ
قُربي الجِنانُ إذا حظينَ بقربها... والبعدُ نارٌ للنساءِ شِواءُ(ص150)
ويصل غروره الرجوليّ إلى ذروته إذ يُصوّر نفسه ك الفارس المشتهى الذي تتمناه كلّ النّساء، ويعتدّ بكونه يدرك كيف يتعامل مع جسد الأنثى لدرجة أنهنّ يسلمن أنفسهن له عشقًا:
هل الذنبُ أنّي
أجيدُ اقتناصَ الشفاهِ
لتُسقِطض كلُّ اللواتي حظينَ بقُربي
اللثاما!
( ما الذنب!_ ص126)
هؤلاء العابرات يسببن له الأوجاع التي لا تطاق، حين يغادرن:
فينهشنَ قلبي
وتمضغُ واحدةٌ كبدي
ويحَ قلبي..
وتمضغُ أُخرى-----
ولكن عَلامَا!
(ما الذنبّ_ ص124)
لذلك يثأر منهن :
هل الذنب ذنبي
بأنّي سلختُ جلودَ النّساءِ
فأبقيتُ من كلِّهن العظاما!
أم الذنبُ أنّي احتللتُ القلوبَ
وأخرجُ منها
لأتركَ خلفي حُطاما!
(ما الذنبّ_ ص125)
فهو يمارس ارتواءه الجسدي مع كلّ عابرة تأتيه طوعا لكنه يتركها في قاع بحره حطاما، بعدما أوهمَت نفسها أنّها حبيبته :
هل الذنب أنّي رويتُ اشتياقي
لكلّ اللواتي عبرنَ ببحري
وأوقفتهنَّ بميناءِ نبضي
فأصبحنَ في القاعِ
نسيًا وكنَّ الغرامَا!
(ما الذنبّ_ ص126-125)
وهو يعترف أنّه يمارس معهن الخطيئة لكن لا الذنب ذنبهن فهنّ يأتينه عاشقاتٍ:
ماذا لمحتِ
لتعبري بي في فراغٍ
يستعيرُ الرُّوحَ من فوضى الجراثيمِ
التي عاثتْ خطايا
في الجسد!
(لا تقرأي هذي القصيدة_ ص115)
ومن منطلق نرجسيته، يكثر الشّاعر من استخدام أفعال الأمر في ديوانه كأنّ يقول: عودي(ص150)... أحذروني(ص109).. تقبّلي (ص149)..تريّثي(ص149)...رتّل، لا تُغفل، أرسم الآهات، أصلبوني(ص 108)، حاصروني، واكتبوا، استبيحوا (ص 109)...فاختَرْ جنونك( ص96)، فاذهبْ لنَحْركَ (ص 96)، لا تعبثي(ص 96)،إظفرْ بها، دعْ عنكَ، أنجِزْ(ص71)، لا تنتظر، إقتَربْ، إنتَقِم(ص70)... والديوان يعجّ بأفعال أمر أخرى.
صورة المرأة في شعر حسام تتطلب وقفة خاصة، إذ يمكن اعتبارها الموتيف أو المِحْوَر الأساسي الذي تتحرك عليه أغلب القصائد باستثناء قصائد الرثاء والموت والقصائد الوطنيّة.
يمكن تقسيم نساء شاعرنا إلى قسمين، فهنالك العابرات أو نساء القبيلة (ص53) كما يطيب له أن يسميهن وهنّ اللاتي عبرن حلمه فلم يأتين حسب مستواه الفكري ولا العاطفي ولم تكتمل أنوثتهن، لذا لم يحظين بإهتمامه:
أنا مَن نَوضى عن جميعِ النّساءِ الصِّياما
وصَلَّى عليهنَّ ليلا قِياما
(ما الذنب_ ص127)
فغادرن وتركن له أوجاع غدرهن، ويعود ليتماهى مع آلالام السيّد المسيح( مزقوا ظهري) في الأوجاع التي تركتها العابرات حتى أنّه ترّنح على صليبه من هول العذاب( خارت قوى الجسد العليل ومالا):
فتسلّل الجسّاسُ يُعمِلُ غدره...وطُعِنْتُ في قلبي ونبضي سالا
ألقيتُ نظراتِ الوداعِ وغرْغرتْ... روحي فطَعْنُ الغادرينَ تَوَالى
قد مزَّقوا ظهري لدسِّ سمومهم... خارتْ قُوى الجسدِ العليلِ ومالا
( ابنة مالك_ص 145)
يتعامل شاعرنا مع العابرات بضراوة فيكرّس قصائدا لهجائهن:
بالمقابل، هنالك أنثى واحدة يعشقها:
في القلبِ أنثى...
ليسَ ينبضُ لإثنتَيْنْ
(القدّيسة والرّيح_ ص91)
ويعترف في قصيدة: (نصّ يرعبني_ ص53)أنّ قلبه لا يميل لأكثر من حبيبة واحدة:
أحتاجُ لنصٍّ يرعبهم
لتذوبَ السَّاحرةُ الكبرى
وتموتُ نساءُ قبيلتنا
إن تُليَ النّصُ
ولو مرّة
يرعبهم كونكِ مَنْ فيهِ
وحدكِ تفكيري..
والفكرة
هي الأنثى التي اختارها قلبه فملكت حواسه وكانت لقصائده مصدرالإلهام والوحي:
ديوان شِعْرٍ أنتِ بل كلّ الهوى... شِعْري لغيركِ في الهوى سيُحَرَّمُ
سَأجودُ في قولي فلا تتعجّلي...إنَّ الكلمَ بغيرِ وصفِكِ يُظْلمُ
لا تسألي من أنتِ في عيني أنا... نصٌّ منَ الإلهامِ لكن أكتم(ص149)
ويكرر ثيمة كون الحبيبة هي مصدر الوحي أكثر من مرّة:
أو كنتِ الوحيَ فآتيني... من روحِكِ نورًا لأُسلِّمْ
(يا مريم_ص 134)
يرى شاعرنا أنّ حبيبته مكتملة الصفات:
تعاليتِ عن كلِّهنَّ إكتمالاً... وفيكِ تعاليتُ عن كلِّ داءٍ
(سأُبطلُ موتي_ص130)
أمّا في قصيدة: ما الذنب، فيعلن شاعرنا:
وهي كذلك إكتمال الأنثى، التي تغار منها العابرات لعم تمتعهن بالأنوثة:
ماذا تقول الرّيحُ بعد هدوئها
للجالساتِ على نقيضٍ
من مسافات اكتمالِ أنوثةٍ!
(القدّيسة والرّيح_ ص 89)
أنوثتها المكتملة تستبيح جنونه:
إلى أن تراءتْ معَ الفجر روحٌ
أتتني على صهوةٍ من أُنوثتها
واستباحَتْ جنوني
لتُسقِط من راحتَّيَ الحُساما
(ما الذنب_ص127)
أنوثتها هي التي دفعت به ليسقط حسامه أمامها ويستسلم لجمالها، وهو الفارس الذي لا يستسلم لسواها، بل يزجهن وينعتهن بالماكرات اللاتي لن تنطلي عليه مكائدهن للإيقاع به:
لستُ الذي تُغريهِ اصواتُ الودعْ
لستُ الذي قلبَ الفاجينَ
إنتظارًا للبِدَع
لستُ المُتيَّمَ بالحكايا
العالقاتِ على شفاهِ الماكراتِ
( عرّافة_ص 96-97)
حبّه لها مزدوج الحسنات، فهي من جهة البلسم لجراحه:
تجلّيتِ نورًا وكنتُ بنارٍ... فصرتِ سلامًا وبردًا ، كِسائي
(سأُبطلُ موتي_ص130)
وهي التي أعادت بناءه وأحيته وأحيت قصيدته:
وقد كنتُ ردْمًا بأمرٍ السَّماءِ...فمن أنتِ حتى تُعيدي بنائي!
(سأبطلُ موتي_ ص 130)
لكنه بالمقابل يتمنى الموت عشقا فيرجوها ألاّ تقدّم له ترياق الخلاص من حبّها:
أنا الله بالموتِ فيكِ اصطفاني... فلا تقربيني بكأسِ الدواءِ
(سأُبطلُ موتي_ص130)
ثمّ، ترتقي رؤياه للحبيبة لدرجة القدسيّة فيراها مريم عليها السلام فيوظفّ التناص الديني ببراعة:
هُزّي بالجذعِ لتمطرنا ... رطبًا وانطلقي كي نَسْلَمْ
(يا مريم_ص134)
وبسبب قدسيّتها، يدعوها إلى تطهيره من خطاياه مع مئات العابرات حلمه والقابعات في هوامش قصائده،ويدعوها أن تمحوهن وتكون هي سيّدة قلبه كلّه. ثمّ، يصور عشقه على أنّه ديانة. لذلك
يسألها أن تعتنقها ، لكنّها ديانة أرضيّة لذا يعتبرها خطيئة:
هل تجرؤينَ
على اعتناق خطيئتي
فتُطهرِّيني
من غُبار العابراتِ
العالقاتِ
على هوامشِ صفحتي؟
فقد احتوى هذا الغالافُ
على المئاتِ
من النُّصوصِ
المائلاتِ عن السُّطورِ
فهل رأتها العينُ حينَ تصفَّحتني خلسةً!
كوني الغلافَ...
وما حَوَى
لتزولَ كلَّ نصوصهنَ الخافيَةْ
(هل تجرؤين_ص112)
ولديانته الأرضيّة العشقيّة طقوسها: "سجدة العشق"(إشباع_ ص73) ولها كذلك فريضة ستكتمل مع التقاء عقربيّ الساعة، فكأنّها هي وهو سيلتقيان أخيرا على رقعة الزّمن، وهنالك نجمة تشير إلى هذا اللقاء، وهذه النجمة تستدعي من الذاكرة حكاية تلك النجمة التوراتيّة التي أشارت لمكان ولادة السيدّ المسيح والتي قادت المجوس إلى مذود ولادته، وبما أنّه صبغ صورته الشعريّة بهذه القدسيّة وربطها مع ميلاد المخلّص، فقد أكمل الصورة الشعريّة الفذّة بالإشارة إلى أنّ ولادته كعاشق لها وحيٌ مُنزل:
هل تجرؤين
على اقتناصِ النّبضِ
من قلبي
المضاءِ بنجمةٍ
لمعتْ على
نبضِ التقاءِ عقارب التّوقيتِ
للإنذارِ
عن قُربِ اكتمالِ فريضةِ العشقِ
التي فُرضَتْ
بوحيٍ
ساكنٍ بين الشفاهِ
إذا ابتسمنَ
يكونُ وحيًا مُنْزلاً
(هل تجرؤين_ص 110-111)
ويتجلّى العشق بوجهيه: العطاء والأخذ، فحبيبته
تجعل قصيدته تكتمل فيستفيد هو من تجليها في حياته، لكنها في ذات الوقت تستفيد هي من حضورها في حياته إذ يكتب عنها فتتجمّل بقصائده التي تتحول إلى معجم عشقي يلجأ إليه العُشّاق ليرتو منه:
هل تجرؤينَ على ارتداءِ قصيدتي!
تتجمَّلينَ فتكملينَ القافية؟
( هل تجرؤين_ص110)
وفي رؤاه، يصوّر حبيبته ملكة تنحني لها كلّ الأميرات ، فهو الذي اصطفاها من بينهن ومنحها هذه المرتبة السّامية عبر قصائده:
فإذا كتبتُكِ في القصيدة تنحني... لكِ مِن ضياءِ الكونِ جهرًا أنجُم(ص149)
لها وحدها يرّق قلبه، لذا يستجديها وهو الفارس النّرجسيّ الذي تتمناه جميعُ النّساء، لكنّه يترفَّعُ عنهن:
ولستُ بمَنْ يُقادُ بطرفِ خيطٍ ...ولا بالرِّمشِ أركَعُ لِلحِسَانِ
( الجمان_ ص139)
ولا يميل قلبه إلا للملكة، التي يأتيها مستسلما، طائعا كطفل يأتي حضن والدته لينعم بالهناء والطمأنية بعدما أدمته التّجارب الفاشلة مع نساء القبيلة:
فتقبّلي من جاء عرشكِ طائعا... وتريّثي علّي بقربِكِ أَنْعَمُ
أو تحجبينَ النّبضَ عن قلبِ الفتى ... فتضمُّهُ بينَ الضلوعِ جهنَّمُ
(ص149)
حبيبته ليست امرأة عاديّة. هو يرى الهالة التي تحيط بها، وبذلك ترتقي لمنزلة الشخصيات المقدّسة أو الملائكة. ولأنها تكتسب صفة القُدسيّة، فهي امرأة أسمى من كلّ هؤلاء النّساء العابرات. هي الآمرة الناهية على قلبه، وهي الملكة التي تتوعده بإصدار أمر رجمه إن كان منافقا:
الهالةُ حولكِ ترصدني... (إن كنتَ شقيًّا قد تُرجَم)
عيناكِ تُجيبُ وتتبعُني...( أو كنتَ تقيًّا فتكلَّم)
لها وحدها ينسج أجمل القصائد المضمخة بالرومانسيّة، ويرى أنّها مصدر الفرح، لا لقلبه وحده إنّما للكون بأسره:
وتبسَّمِي فالنّور يسطعُ حيثما... تتبسّمينَ وكوننا يتبسَّمُ
( ص148)
ثمّ، يحثّها ألاّ تبالغ في التمنّع كي لا تنضب أشواقه:
كمَنْ تاهَتْ أراكِ الآنَ لكن... إذا ما زِدْتِ تيهًا لن أراكِ
لروحي كي تناجيها صلاةٌ... أقيميها ففي وَصْلي غِنَاكِ
(حروف الجرّ_ ص138)
ويلجأ شاعرنا إلى ثيمة الشيزوفرينيا، فهو اثنان لا واحد:
عاهدتني، صافحتني، عانقتني( إشباع_ص 74)،
باركتُني( إشباع_ ص77)، فانحنيتُ إلى شبيهي... فغدرتُني، وطعنتُني، وكسرتُني، فغفرتُ لي، غَسَلْتُني( إشباع_ ص 74-75).
هنالك حسام الشّاعر المرئي، وهنالك غير المرئي الذي يقيم داخله فيبحث عنه ولا يراه لكنه مدركٌ لوجوده، ويسميهِ "شبيهي"(إشباع_ص74) :
نظرتُ إلى المرايا في عيوني... فما شاهدتني لكن أراني
( الجُمان_ ص139)
ولأنّه اثنان، فهو يوظف هذه الثيمة في قصائده. فكثيرا ما يُخاطب الآخر كأنّه ذات منفصلة عنه ويعتبره الوحي الذي يلهمه القصائد:
أقابلني على أطرافِ حرفي... فأُلهمُني الحكايا والأغاني
(الجُمان_ص139)
*
لعلّ أجمل ما أقفلُ به هذي الإضاءة السّريعة على تجربة شاعر فلسطيني فذّ، هي هذي الصورة الشعريّة المبتكرة التي تجلّت فيها عبقريّة شاعرنا:
دعينا نُصلّي..
لننجو سويًّا.
وصلّي عليَّ بروحِ القططْ
يُؤَذّنُ ديكُ الهَوَى فاتبَعِيهِ
جريحًا تراقصَ
(مَنْ ذابحوهُ)!
_
(روح القطط_ ص11)
-----------------
(قراءة الشاعرة الفلسطينيّة ريتا عودة/حيفا/
08.10.2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب