المشاركات الشائعة

السبت، 8 ديسمبر 2018

أضواء في الغرب وظلال في الشرق - جينان كيان.



قضيت وقتا كثيرا في مشاهدة غروب الشمس منذ أن جئت إلى مدينة أيوا. إن المنظر يختلف كثيرا عن أي شيء قد رأيته في الصين.
أول شيء لاحظته هنا في أيوا هو أن غروب الشمس يدوم طويلا. تبدو الشمس مترددة جدا في الانكفاء إلى مأواها حتى الساعة 8 مساء. وإن ليلة الصيف تبقى  متوهجة، أمر مستغرب بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على سماء مظلمة في السابعة مساء. اعتبره كتحدٍ لإحساسي القديم عن غروب الشمس. هنا لا أرى حقاً تلك الشمس الحمراء الدائرية، مثل صفار البيض المسلوق، تغرق ببطء في الأفق؛ ولكن بدلا من ذلك أرى ضوءا ذهبيا، يصبغ السماء بأكملها. لقد اعتدت اعتبار أن اللون الذهبي هو اصطناعي أكثر منه طبيعي- أعتبره كبهرجة ملكية زائلة كان يتباهى به الأباطرة في الأيام الخوالي، أو إنه نوع من البذخ المبتذل الذي يرتديه بعض الأثرياء في عصرنا هذا. لم أرَ هذا اللون قبلا يشع هكذا في سماء لا حدود لها.
إذا عدت إلى الشعر الصيني الكلاسيكي، فسترى في الأرجح أن صورة غروب الشمس عادة ما تشير إلى "الأحزان" و"المآسي".
كتب لي شانغيين: وهو شاعر مشهور في أسرة تانغ، في قصيدته "مقابر ليو"، "كالشمس وعلى عظم مجده سيوارى الثرى بحلول الليل القادم". غالبًا ما يطلق على غروب الشمس في الصين "شمس الليل" أو "الشمس المائلة"، وكلاهما استعارة أو كناية عن  الضوء الأخير الذي يتعرض له المرء قبل موته. في اليوم التالي وبينما كنت أنتظر الحافلة في حوالي الساعة 7:30 مساء، في مدينة أيوا، نظرت إلى السماء فإذا هي تتوهج بضوء غروب الشمس الذهبي المنعكس على الغيوم، مثل النقوش البرونزية المطلية بالذهب في (غيتس أوف بارادايس) في فلورنسا. شعرت كما لو أن ملائكة مجنحة كانت على وشك القفز من إحدى الغيوم. وبعد نصف ساعة من الركوب في الباص، كان الأفق لا يزال يشع وهجا ذهبيا. فتساءلت، يا ترى إذا ظللت أتجه غربًا، هل سأرى خطًا من الأفق الذهبي الممتد إلى الأبد؟ ينقل ضوء الغروب رسالة أمل بدلاً من اليأس. الآن أفهم لماذا كتب الشاعر المتميز كارل ساندبيرغ عكس الطريقة التي رد بها لي شانغيين عن غروب الشمس:
أقول لك لا يوجد شيء في هذا  العالم/ غير الكثير من أيام ( الغد)./ وسماء أيام  الغد./ أنا مثل أل cornhuskers الذين يقولون/ عندما تغرب شمس اليوم: فأن غدا  سيصبح هو اليوم.
يضفي الوهج الذهبي لغروب الشمس قوة غير محدودة  للتطلع إلى الغد من أجل التعمق والغوص أكثر في الثقافة الأمريكية عندما جئت إلى أيوا، حضرت دراسة الكتاب المقدس الأسبوعية مع (إلفا كريج)، زميلة في كنيسة المعمدانية في مدينة أيوا. سألتني إلفا سؤالاً عندما كنا في البداية، قرأنا سفر التكوين: "لم يخلق الله الشمس والقمر حتى اليوم الرابع من الخلق، فباعتقادك من أين جاء النور في اليوم الأول؟" لم يخطر ببالي أبدا من مثل هذا السؤال من قبل. "حسنا، أنا لا أعرف بالضبط "، فقالت إلفا "لكنني أتصور أنه في وقت مبكر من اليوم الأول، فتح الله نافذة من الفردوس للسماح لنور الجنة بالتدفق إلى الأرض." هناك بعض الغموض هنا– حيث تم خلق الجنة بعد الضوء وليس قبل الضوء، أي في اليوم الثاني. لكني أحببت تفسيرها. أعتقد أن العديد من الناس في السياق الغربي قد يكون لديهم صورة مماثلة في ذهنهم عند قراءة سفر التكوين لأول مرة. وهكذا يصبح الضوء رمزًا هامًا في الثقافة الغربية- أول هبة من الرب لانتشال البشرية من الظلام.
يتوسع مفهوم الضوء تدريجيًا،  ويتضمن محتوًى أكثر ثراءً. لقد أوضحت أوروبا التنويرية بوضوح كيف يضيء "ضوء المعرفة" على البشرية. ويبدو كذلك أن الضوء يحدد المعايير الجمالية في الثقافة الغربية أيضاً: فعند تزيين المنازل، يقوم الناس في أمريكا بتركيب الكثير من النوافذ الكبيرة، حيث الزجاج صديق لأشعة الشمس ويسمح لها باختراقه. وإذا كنت ترغب في رصف أرضية  المراحيض فستسخدم بلاط السيراميك الأبيض لأن ذلك من شأنه يجلب المزيد من الضوء لجعل المكان أكثر إشراقا ونظافة. كما تعتبر متنزهات المدن في أوروبا وأمريكا بقعا من العشب واسع الانتشار حيث يمكن للمرء التمتع بأكبر قدر ممكن من أشعة الشمس. أوه هذا رائع لدرجة أن ترغب في الاستحمام في الشمس! وحتى عندما يتم استعراض جمال المرأة في اللوحات الزيتية أو في الأعمال الأدبية، يجب أن تضيء المرأة؛ خلاف ذلك، لا يمكن أن ترى جمالها.
وحدث في إحدى المرات، أن ذاب  الجليد، وهي تقف على عتبة الدار، فأخذ الماء ينساب على جذوع الأشجار وأخذ يتساقط من أسطح مباني الضيعة، فتحولت الى الداخل فجلبت مظلتها، ففتحتها. وكانت المظلة، مصنوعة من الحرير المموج  قزحي الألوان فلما نفذت خلاله اشعة الشمس عكست على بشرة الفتاة الناصعة أطيافا متأرجحة من الضوء، وانبسطت أسارير وجهها وهي تستمرئ الدفء الذي بعثته الشمس في جسدها، حين كانت قطرات الماء تتساقط على حرير المضلة المشدود، محدثة طرقات متتابعة.
هكذا وصف غوستاف فلوبير(إيما) في روايته مدام بوفاري. فبدون أشعة الشمس هذه لم يكن تشارلز (بطل رواية مدام بوفاري) أن يلحظ جمال إيما. ربما لهذا السبب خلق الله النور في اليوم الأول.
ساهم الصينيون القدماء بالعديد من الاختراعات للحضارة الإنسانية، لكننا لم نبتكر الزجاج، ولم نستخدمه في كثير من الأحيان (رغم أننا حصلنا عليه في وقت مبكر من أواخر (حقبة الربيع والخريف) بمعنى أوائل القرن الخامس قبل الميلاد). يبدو لي أن السبب يرجع إلى الاعتبارات الجمالية أكثر من الاعتبارات العملية. إن الزجاج يتيح الكثير من أشعة الشمس، ومن ثم سيجعل المكان مكشوفًا تمامًا. شعر الصينيون بالضيق إزاء فكرة الرؤية الواضحة الكاملة لمكان ما. ما أملَّه! ما أجلفه! لقد فضلوا الظلال على الضوء.
في الهندسة المعمارية التقليدية لشرق آسيا، نقوم بتغطية إطارات النوافذ وإطارات الأبواب بالورق. إن الورق يخفف وقع أشعة الشمس القوية. إن أشكال إطارات النوافذ وإطارات الأبواب -الأنماط المنمقة المكسوة بالأزهار، أو أشكال الأحرف الصينية– التي يمكن أن تلقي بظلالها الطويلة إلى داخل المنزل. فحتى المراحيض يمكن أن تكون شاعرية أيضًا! فقد أشاد الكاتب الياباني المذهل جونيشيرو تانيزاكي بالمرحاض الياباني  واعتبره "كمكان للراحة الروحية". مثلها مثل الصينية، فهي مبنية في الهواء الطلق، وتبقى مسافة قريبة من المبنى الرئيسي، وعادة ما يتم وضعها تحت سقف من القش في الصين، أو في بستان "عطرة مع أوراق الشجر والطحالب" في اليابان. كتب تانيزاكي في كتابه "In Praise of "Shadows : "لا توجد كلمات يمكن أن تصف هذا الإحساس عندما يجلس المرء في الضوء الخافت، ينعم بالوهج الباهت المنعكس من ألـ(Shoji)، غارقا في التأمل أو يحدق في الحديقة". هذه العبارات هي حتى الآن أجمل الكلمات التي قرأتها على الإطلاق عن المراحيض.
تختلف منتزهات مدننا أيضًا عن نظيراتها الغربية. تم تصميم حدائق المدن الصينية التقليدية بطريقة بحيث تجعلك تلتقط لمحة مختلفة لنفس المنظر كلما تقدمت خطوة إلى الأمام. على سبيل المثال، غالبًا ما تنتشر في منتزهاتنا التقليدية أشكال من سرادق أو خيم. عندما تنظر إلى السرداق من بعيد، ترى أنه محاط بالنهر والنباتات. عندما تقترب منه، سترى كيف أن السقف، والأعمدة، والسور كلها تشكل معا الصورة الكاملة، ونباتًا واحدًا أو اثنين فقط، تمامًا  كالرسم الصيني– كذلك القصائد الصينية المنحوتة على الأعمدة وتمشي مرددًا الآيات التي نقشها الفنان على هوامش رسوماته. تذهب بعد ذلك إلى داخل الجناح وتنظر من إحدى نوافذه، ستلاحظ في زاوية نضع فيها أحجارًا ذات شكل غريزي ("جبال مزيفة" في الترجمة الحرفية) بالقرب من النباتات، بطريقة تحاكي الجسور والجبال والحيوانات. وهكذا يصبح هذا الركن مصغرًا للطبيعة نفسها. لن تحصل أبدًا على رؤية واحدة لمتنزه مدينة صيني. بدلا من ذلك، تحتاج إلى المشي لاكتشاف احتمالات لا حصر لها للجمال.
عند شرب الخمر (baijiu، soju، and sake)، نستخدم الخزف أو الفخار الملون، وكثيرًا ما نقوم بتدوين الحروف الصينية عليها أو نحتها بأشكال نباتية أو تشبه الحيوانات؛ ثم يمكننا التمتع بالظلال الملونة والمثيرة للاهتمام المرسومة على  الكأس عند الشرب.
إذا كنت قد شاهدت قبلا  الأوبرا الصينية التقليدية، فربما قد لاحظت إن الجميلات الصينيات على خشبة المسرح من المحتمل أن يخفين نصف وجوههن خلف الأقنعة المصبوغة للشخصيات التي يمثلنها ويخفين مفاتنهن خلف الأكمام الطويلة والمطرزة جيداً. بالنسبة لنا، هذه الأكمام واخفاء الملامح تجعل النساء أكثر سحراً. فبدلاً من الحصول على صورة كاملة لما تبدو عليه المرأة، نتخيل مظهرها وصوتها وشخصيتها على أساس رؤيتنا المحدودة لها. في تخيلاتنا، جمالها لانهائي. لا نجرؤ أيضا على النظر مباشرة إلى امرأة لأنها تعتبر وقاحة كبيرة في ثقافتنا. كل ما يمكننا القيام به هو استراق نظرة على جزء صغير جدا منها ونكمل متعتنا وكذلك لهفتنا باستخدام خيالنا.
لمعت عين المرأة أمامه. وكاد يصيح فزعا. لكنه كان يحلم، وعندما استعاد وعيه رأى أنه كان مجرد انعكاس لفتاة في المرآة المقابلة له. حينما كان الظلام يزداد في الخارج، تم تشغيل الأضواء في القطار، وعندها إلى مرآة. كانت المرآة مغمورة بالبخار إلى أن رسم ذلك الخط عبرها.
الفقرة المذكورة أعلاه هي من رواية بلد الثلج، التي كتبها الروائي الياباني ياسوناري كواباتا، الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 1968. تختلف زاوية عرض جمال المرأة  هنا عن فلوبير في مدام بوفاري. وهو يتيح للراوية الذكر أن يلتقط لمحة عن جزء صغير من المرأة: عين واحدة. قد يبدو الأمر مرعباً أكثر منه لطيفاً للقراء الغربيين. هذا النوع من النظرات شائع جدا لرجل في دول الشرق يلتقي بامرأة. الكاتب  زهو زورين، وهو كاتب نثري كبير في التاريخ الأدبي الصيني الحديث، يصور جمال حبيبته الأولى فقط من خلال إظهار قدميها، حيث أن قدميها هما المشهد الوحيد الذي يجرؤ على النظر والتمعن فيه منها، فهو أمامها تكون عينيه دائما على الأرض. في حين يركز فلوبير بشكل أساسي على انعكاس  الضوء على البشرة البيضاء لإيما ، يمسح كواباتا كاميرته الأدبية بـاستخدام "البخار". هنا، يعمل البخار، الذي يعمل بشكل مشابه مع الأكمام أو المشجعين في الأوبرا الصينية التقليدية، على المرأة على مسافة مناسبة. من المعجب بها، مما يجعلها لا يمكن المساس بها وأكثر غموضا. الجمال ليس ما نراه في الضوء، ولكن الجمال هو تخيل ما لا نستطيع رؤيته.
أكتب حنينًا للثقافة الشرقية التقليدية. ذهب كل شيء. في الوقت الحاضر، نقوم جميعنا بتثبيت نوافذ زجاجية ، بلاط الأرضيات بالسيراميك الأبيض، ونحاول بكل الوسائل أن نجعل من بيتنا "البيت الجميل" مكانًا "نظيفًا ومضاءًا جيدًا". لقد أجبرنا التحديث والتغريب على التخلي عن الممارسات العزيزة. لكن لا يسعني إلا أن أتساءل: هل يمكننا حجز مساحة صغيرة خاصة بنا، حيث نعبد ظلالنا، وليس نوركم؟


______

لي شانغيين: (حوالي 813-858) شاعر صيني لأسرة تانغ الراحلة، ولد في هينان. كان مثار إعجاب وتم اعادة اكتشافه  في القرن العشرين من قبل الكتاب الصينيين الشباب وذلك للجودة التخيلية لقصائده.
حقبة الربيع والخريف :هي فترة في التاريخ الصيني يُعتقد أنها تمتد بين عامي 771 و476 قبل الميلاد في السهل الرسوبي لـ النهر الأصفر واشتق اسمها من حوليات الربيع والخريف وتاريخ دولة لو التي تمتد بين عامي 722 و 479 قبل الميلاد.

جونيتشيرو تانازاكي: (24 يوليو 1886 - 30 يوليو 1965) روائي ياباني وقد يكون أشهر روائي ياباني. تمثل أعماله ديناميكية الحياة العائلية اليابانية في سياق التغيّرات السريعة في المجتمع الياباني في القرن العشرين، كما تمثل البحث عن هوية ثقافية يابانية في العالم الحديث. حصل على وسام الثقافة عام 1949.

ياسوناري كواباتا: المولود في 14 يونيو 1899 والمتوفي في 16 أبريل 1972 روائي ياباني أهله إبداعه النثري المكتوب بلغة شعرية راقية وغامضة للحصول على جائزة نوبل للأدب 1968؛ ليصبح بذلك أول أديب ياباني يحصل على الجائزة العالمية. ولا تزال أعماله مقروءة إلى اليوم .

زهو زورين:  (16 يناير 1885 - 6 مايو 1967) كاتب صيني، عُرف في المقام الأول بالمقالة ومترجم.  بدأ دراسة اللغة اليونانية القديمة ، بهدف ترجمة الأناجيل إلى اللغة الصينية الكلاسيكية.

بلد الثلج: رواية لياسوناري كواباتا تتمحور  حول الوحدة، والحب المستحيل، ومأساة ضياع الجمال والحب خلال التقدم في العمر، والحياة والعلاقات الإنسانية.

shoji: في العمارة اليابانية التقليدية، shōji هو باب أو نافذة أو مقسم غرفة يتكون من ورقة شفافة على إطار من الخشب الذي يجمع معا طبقتين من الخشب أو الخيزران. في حين أن washi هو الورق التقليدي.

كاتبة المقال: جيانان تشيان ولدت  ونشأت في شنغهاي، الصين. وهي مؤلفة مجموعة قصصية ومترجمة لروايتين من الإنجليزية إلى الصينية. هي حاليا مرشحة MFA في ورشة أياوا للكتاب.

مترجم المقال: فلاح حسن خليل.
التدقيق اللغوي: مؤمن الوزان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب