المشاركات الشائعة

الاثنين، 3 ديسمبر 2018

قوة العائلة السعيدة في آنا كارنينا

قوة العائلة السعيدة في آنا كارنينا

يفتتح تولستوي رواية "آنا كارنينا"، بقول "جميع العائلات السعيدة متشابهة". "كل أسرة غير سعيدة غير سعيدة بطريقتها الخاصة"، مما يجعل الرواية دراسةً حول العوائل السعيدة وغير السعيدة.

على الرغم من أن الرواية هي بالأساس عن العائلات غير السعيدة لكن تولستوي يروي قصة العائلة السعيدة، إيكاترينا شيرباتسكي (كيتي) وكونستانتين ليفين (كوستيا)، وهما مثيران للاهتمام مثل الآخرين. على الرغم من أن كل علاقة أخرى تبدو وكأنها تمزق أعضائها لكن علاقة كيتي وكوستيا تبرز لأن حبهم يجعلهم أقوى. لدى نيكولاي ليفين، شقيق كوستيا، الأهمية الأساسية لتوضيح كيف تسمح علاقتهما لهما بالتعامل مع القضايا التي لا يمكنهما التعامل معها بمفردهما. نرى الصفات التي تجعلهم غير قادرين على التعامل مع مرضه نفسها قد تحولت إلى فضائل عندما يكونان معا. باستخدام حياة وموت نيكولاي ليفين لتكون طريقة لإبراز الاختلافات في كيتي وكونستانتين ليفين قبل وبعد زواجهما، يؤكد تولستوي على القوة التحويلية للحب، وكشف عن قدرة الحب على موازنة نقاط ضعفنا وجعلنا كاملين.
يضع تولستوي على الفور الرابط بين علاقة كيتي وكونستانتين، ونيكولاي. في المرة الأولى التي يلتقي فيها القارئ نيكولاي مباشرة بعد رفض عرض الزواج الاول لكونستانتين من  قبل كيتي، مما دفع كونستانتين إلى التشكيك في قيمته الذاتية غاية هذا العالم:
أنا لا ألوم إلا نفسي. ما حقي في أن أفكر أنها تريد ضم حياتها الى حياتي؟ من أنا؟ وماذا أنا؟ رجل لا قيمة له، لا فائدة مني لأي شخص أو لأي شيء. وتذكر شقيقه نيكولاي وتوقف بفرح في هذا التذكر. "أليس من الصواب أن كل شيء في العالم سيئ وشرير؟" [84]
كوستيا هو استنكار الذات لدرجة تكاد أن تكون مثيرة للشفقة. في الغالب، فإن التواضع  ولوم النفس هما فضائل، لكن كوستيا يأخذها إلى أقصى الحدود ويريد أن يتخلى ببساطة عن العالم عندما تسوء الأمور، ويزدري نفسه ليصبح "بلا قيمة". ويربط بين استياء كوستيا من نفسه وموقف اخيه المتشائم بخصوص العالم، أُعد نيكولاي ليكون نقيضا لموقف كوستيا المعتاد. يقدم تولستوي نيكولاي على أنه شخص يجعل كوستيا يواجه مشاعره الداخلية، إذ يصف كوستيا أخاه بأنه "من فهمه تمامًا، والذي سيستدعي كل أفكاره العميقة، سيجعله يتكلم بعقله بالكامل، في حين إنه لم يرد ذلك" [346]. إن استبطان كوستيا العميق يجعله شخصية كريمة جدا. ولكن في الأوقات السيئة، يؤدي به إلى حالة هوس كما يقر في هذا البيان بقوله إنه لا يريد أن يفكر بعمق.
لا يلفت نيكولاي الانتباه إلى الاستهتار الذاتي لكوستيا فحسب، بل إن مرضه الشديد يجعل من كوستيا يتأمل في الموت، مما دفعه إلى التشكيك في الغرض من الحياة بشكل عام: "الموت، النهاية الحتمية لكل شيء، قدم نفسه له لأول مرة بقوة لا تقاوم" [348]. فكونه شخصية فكرية عميقة وعاطفية، يتم الإمساك بكوستيا عندما تُطرق مسألة الوفاة أمامه بسبب مرض نيكولاي، مما يؤدي به إلى حالة من العدمية.
يشير اختيار تولستوي لكلمة "لا تقاوم" إلى كيف أن كوستيا قد سحرته أفكار كهذه، ولا يسعه إلا أن يحصل عليها، على الرغم من أنها تدفعه إلى الجنون:
لقد نسي بالفعل، في حياته، ظرفاً واحداً- أن الموت سيأتي وكل شيء سينتهي، وأن لا شيء يستحق الذكر ولا يمكن فعل شيء حيال ذلك. نعم، كان الأمر رهيباً. [348]
بالقول إن كوستيا قد نسي احتمالية الموت، يؤكد تولستوي مدى عمق تأثير نيكولاي في كوستيا. يجبر مرض نيكولاي كوستيا على محاولة مواجهة المسألة الكبيرة المتعلقة بالحياة والموت، لكن كوستيا غير قادر على التعامل معها، بدلاً من ذلك اختار التراجع إلى حالة من اليأس المطلق: "لقد رأى الموت أو المدخل اليه في كل مكان. لكن هذا التعهد احتله الآن أكثر. كان عليه أن يعيش حياته حتى النهاية، حتى جاء الموت، غطى الظلام كل شيء حوله" [352].
تغير العدمية كوستيا من رجل منهجي عميق الشعور إلى ساخر بارد. كل عيوب كوستيا التي يبرزها مرض نيكولاي (تفكيره الوسواسي، اللوم الكامل لنفسه) هي أفضل صفاته (فكره العميق، قدرته على تحمل المسؤولية عن أفعاله).
يؤكد تولستوي على هذا لإظهار كيف أنه في مثل هذه الحالة الصعبة مثل التعامل مع وفاة شخص عزيز، من السهل جدا أن ينهار الإنسان. إن هوس كوستيا بالموت يضع عبئًا على علاقته مع نيكولاي لأنه غير قادر على إيصال مشاعره، بدلاً من الشعور باليأس مقارنةً مع قوة الموت:
كان كونستانتين يقول فقط  "أنت ستموت، أن تموت، أن تموت!" وكان نيكولاي قد أجاب فقط  "أعرف أنني سأموت، لكنني خائف، خائف، خائف!" لم يكونوا ليقولوا شيئًا آخر، لو كانوا قد تحدثوا من القلب.  [349]
وإذ أنه غير قادر على التعامل مع فكرة الموت، فإن كوستيا لا يستطيع أن يكون هناك مع أخيه عندما يحتاج إليه، مما يجعل علاقتهما مزيفة وجوفاء.
تم تقديم كيتي كطابع ساذج وعاطفي وسطحي يفتقر إلى العمق الأخلاقي، كما يتضح من أول انطباع لها عن نيكولاي ليفين. يلتقي كيتي ونيكولاي أولاً في منتجع صحي، وكيتي غير مُدركةٍ  لهويته:
كان هناك رجل طويل القامة جداً، مستلقٍ بأيدٍ ضخمة، في معطف قديم كان قصيرًا جدًا بالنسبة إليه، بأعين مظلمة وساذجة، ومُخيفة في الوقت ذاته، وامرأة لطيفة المظهر ومفعمة بالفرح، ذات ذوق سيئ جدا في اختيار الملابس. بعد أن أدركت كيتي أن هؤلاء الناس رُوس، بدأت بالفعل في تكوين رومانسية مثيرة بينهما. [216]
تولستوي يجعل كيتي تبدو كأنها طفل يرى الأحاسيس في كل مكان ينظر إليه. يؤكد اهتمامها الشديد بالتفاصيل على مدى الأهمية التي توليها لمظهرها. بعد أن علمت أن هؤلاء الناس هم نيكولاي وماريا نيكولايفنا وسمعت أمها تدينهم، سرعان ما غيرت كيتي رأيها: "هؤلاء الأشخاص أصبحوا فجأة غير مقبولين من قبلها. هذا ليفين، بواسطة عادته برعش رأسه، أثار الآن في شعورها أحاسيس لا يمكن كبتها من الاشمئزاز "[216]. بدلا من أن تكون متعاطفة مع رجل مريض، ستعرض كيتي افتقارها إلى التعاطف من خلال الشعور بالاشمئزاز بدلا من ذلك. يوضح أول حكم لكيتي في نيكولاي مدى سهولة تأثرها بآراء الآخرين وكيف أنها تشكل آراء الآخرين من خلال مظهرهم، كما يفعل الطفل.
على الرغم من أنه عندما كان كل من كوستيا وكيتي غير قادرين على التعامل مع نيكولاي بشكل صحيح، فأنهما بعد أن تزوجا بعض كانا قادرين على مواجهة الموت وتخفيف روع انتقال نيكولاي من الحياة إلى الموت، مما يدل على قوة الزواج السعيد. يكشف مشهد الموت لنيكولاي عن مستوى جديد من العمق الأخلاقي في كيتي. تُظهر نكران الذات والتعاطف عندما لا يريد كوستيا أن تأتي معه إلى فراش موت نيكولاي، لكنها تصر على ذلك قائلة: "يجب أن تفهم أن رؤيتي لك وليس رؤيتي له أصعب بكثير. هناك ربما أكون ذات منفعة لك ولع. ارجوك دعني!" ناشدت زوجها، كما لو أن سعادة حياتها اعتمدت عليه" [492]. على الرغم من أن كيتي كانت سابقاً شخصية ضحلة لكنها في هذا المشهد تم الكشف عن جانب جديد لها حيث تظهر عمق حبها لزوجها، مساوية سعادتها مع سعادة زوجها.
على الرغم من أن نيكولاي أكثر إثارة للاشمئزاز في فراش موته مُقارنة بأول مرة رأته فيها، لكنها لم تعد تنظر إليه كموضوع للاشمئزاز، وبدلاً من ذلك كانت تنظر إليه بحب وحنان: "على مرأى من الرجل المريض، شعرت بالشفقة عليه. ولم تؤدِ الشفقة في روح المرأة إلى شيء من الرعب والحساسية التي كان يعاني منها زوجها، ولكنها كانت بحاجة لعمل شيء، ومعرفة كل تفاصيل حالته وتقديم المساعدة لهم" [493]. إن وصفها بأنها "روح المرأة" يخدم غرضين: فهو يبين أن كيتي شخص بالغ، وليست طفلة، بالإضافة إلى إظهار أن المرأة لديها قوة من التعاطف والحنان  لا يمتلكها الرجال.
إن استخدام مصطلحات عامة مثل "المرأة" و "الزوج"، بدلاً من كيتي وكوستيا، يبين كيف يحاول تولستوي إصدار بيان قابل للتطبيق بشكل عام على الرجال والنساء. ويستند تولستوي إلى هذه الفكرة المعمول بها بشكل عام عن النساء كونهن نوعا يمكنهن التعامل مع الموت بشكل أفضل بكثير من الرجال، مما يضعهن في مواجهة الرجال كمفكرات: "العديد من العقول الذكرية الخارقة والتي قام بقراءة أفكارها حول الموت، ومع ذلك لم يعرف جزءا واحدا من مائة جزء كما عرفته زوجته وأغيا ميخائيلوفنا عن الموت" [496]. يشير تولستوي صراحة إلى الترابط بين الرجال والنساء، والحاجة إلى إيجاد توازن بين العقل الذكري العقلاني والنفس العاطفية للإناث.
على الرغم من أن عقل كوستيا المفكر واندفاع كيتي في تتبع انطباعاتها وعواطفها هي عيوب عندما تكون وحيدة لأنها تصل إلى التطرف، فإنها تصبح متوازنة بحيث يمكنهما التعامل مع أي موقف حين يكونان معا. ذات السمات التي جعلت كيتي تشعر بالاشمئزاز من نيكولاي من قبل، جعلتها قادرة على العناية به بشكل جيد عندما يموت بسبب حبها لكوستيا. من خلال وضع التجاور بشكل صارخ بين رد فعل كوستيا تجاه موت أخيه قبل وبعدها مع وجود كيتي، يعزز تولستوي النقطة التي تجعل الحب يحدث الفرق:
كان منظر شقيقه وقربه من الموت متجددًا في روح ليفين، ذلك الشعور بالرعب من الغموض، ومع ذلك، قرب الموت وحتمية الموت، التي استحوذت عليه في مساء الخريف عندما جاء أخوه لزيارة. كان الشعور أقوى الآن من قبل. شعر أنه أقل قدرة من قبل على فهم معنى الموت، وحتمية ظهوره لا تزال أكثر فظاعة له. ولكن الآن، وبفضل قرب زوجته، لم يدفعه الإحساس إلى اليأس: على الرغم من الموت، شعر بضرورة العيش والمحبة فإنه شعر بأن الحب أنقذه من اليأس وأن تحت هذا التهديد باليأس أصبح هذا الحب أقوى وأكثر نقاء. [504]
وفي جين يعترف تولستوي بأن ضعف تفكير ليفين لا يزال قائماً، فإن زوجته تجعله قادراً على رؤية هدف أسمى في الحياة، وهو سبب للاستمرار، وهو سبب لاستخدام عقله وقلبه من أجل الخير. لا تجعله كيتي أكثر قدرة على التعامل مع موت نيكولاي فحسب، ولكنها أيضاً تمنحه سبباً للعيش.
يستخدم تولستوي حياة وموت نيكولاي ليفين كوسيلة للحديث عن اعتماد الرجال والنساء بعضهم على بعض. يوضح تولستوي هذه الفكرة الكبيرة من خلال الطريقة التي يحتاج فيها كوستيا وكيتي إلى بعضهما البعض للتعامل مع وفاة نيكولاي، وهو موضوع لم يكن بإمكانهما في السابق التعامل معه بمفردهما. منذ أن بدأ الرواية بجملة "جميع العائلات السعيدة متشابهة"، يحاول أن يجعل هذا البيان حول كيف يحتاج الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حقيقة شاملة حول جميع العائلات السعيدة.

ترجمة: محمد جواد.
تدقيق لغوي: مؤمن الوزان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

افتتاح موقع قرطاس الأدب

  افتتحنا موقع قرطاس الأدب ويمكنكم قراءة آخر مقالاتنا المنشورة عبر موقع قرطاس الأدب